صورة خبر

الرباط المحمدي: منابر التصوف أم أذرع ناعمة لنفوذ طهران؟

2025-05-30 18:42:21

الكاتب: سعد عواد

لم تكن مجرد جماعة دينية تدعو إلى التصوف والمحبة، بل مشروع متكامل تمدّد بهدوء، حتى غدا أحد أذرع النفوذ الأكثر إثارة للجدل في الساحة السنية.

من المساجد إلى الإعلام، ومن الدعوة إلى الأمن العقائدي، سلكت جماعة الرباط المحمدي طريقًا ناعمًا نحو مفاصل القرار الديني، متكئة على خطاب يوحي بالاعتدال، ويُخفي في طياته اصطفافًا مع محور إقليمي يمتد من بغداد إلى طهران.

يسلّط هذا المقال الضوء على تحوّلات جماعة الرباط المحمدي وارتباطاتها، واضعًا خطابها المعلن في مواجهة أدوارها الواقعية على الأرض.. لرواية القصة كاملة كما لم تُروَ من قبل.

بدايات هادئة لنفوذ متصاعد

تعود جذور جماعة الرباط المحمدي إلى مرحلة ما بعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، حين برزت الحاجة لإعادة تشكيل الخطاب الديني السني في ظل فراغ روحي وسياسي واسع.

في هذا السياق تأسست الجماعة رسميًا عام 2004 بقيادة عبد القادر بهجت الآلوسي، وهو شخصية دينية تنحدر من عائلة آلوسية معروفة بتاريخها في الفقه والتصوف، وتحديدًا في الطريقة القادرية.

لكن ما بدا في ظاهره محاولة لإحياء التصوف السني المعتدل سرعان ما اتّخذ مسارًا مغايرًا، فبحسب معطيات ميدانية وشهادات بحثية، لم يكن التأسيس محض اجتهاد شخصي، بل جاء بدفع غير مباشر من مرجعيات شيعية نافذة في النجف، سعت إلى إيجاد واجهة سنّية تروّج لخطاب التقريب وتتبنى مواقف متصالحة مع النظام الجديد المتشكّل تحت رعاية أميركية - إيرانية.

ويعود التأثير الشيعي المبكر في مسيرة الجماعة إلى والد المؤسس، بهجت الآلوسي الذي كان قد استغل تكيته الصوفية في مدينة الفلوجة خلال تسعينيات القرن الماضي، لبث خطاب ديني غير تقليدي داخل البيئة السنية، تمثّلت أبرز ملامحه في تمجيد رموز شيعية تاريخية وانتقاد بعض الصحابة، ما عُدّ حينها خروجًا عن المألوف في المجال السني وسط اتهامات بتلقيه دعمًا من دعاة مرتبطين بالحوزة العلمية في النجف.

ومع ولادة الرباط المحمدي رسميًا، تبنّت الجماعة شعار "المحمدية البيضاء" ورفعت لواء الاعتدال والوحدة ونبذ الطائفية، مقدّمة نفسها كجماعة صوفية دعوية تعمل على ترميم الخطاب الإسلامي في بيئة ممزقة ما بعد الحرب، لكن هذا الخطاب الذي بدا تصالحيًا سرعان ما اتضح أنه يحمل في طياته توجهًا أيديولوجيًا مختلفًا، خصوصًا مع بدء الجماعة بناء شبكة علاقات عميقة داخل مؤسسات الدولة، والانفتاح على جهات شيعية وحكومية مؤثرة، ما أثار شكوكًا حول طبيعة مشروعها الحقيقي.

وبينما كان ظاهر الرباط يروّج للمحبة والوسطية، كانت بنيته التنظيمية تتطور بوتيرة متسارعة داخل الأوساط السنية، مدعومة من قوى رسمية وغير رسمية، لتتحول تدريجيًا من جماعة دعوية إلى فاعل سياسي - ديني له امتداد أمني ومؤسسي.

الاختراق المؤسسي

لم يقتصر دور جماعة الرباط المحمدي على العمل الدعوي، بل امتد بشكل منظم إلى مفاصل مؤسسات الدولة، ولا سيما ديوان الوقف السني، فمنذ 2017 تمكّنت الجماعة من التغلغل داخل الهيكل الإداري للوقف إذ شغل عدد من شيوخها مواقع حساسة مثل المجلس العلمي ولجان امتحانات الأئمة، ووصل أحدهم إلى عضوية المجلس الأعلى للأوقاف.

هذا التمدد أتاح للجماعة التأثير على تعيينات الخطباء والأئمة، وفرض معاييرها في عدد من المحافظات، حتى باتت الموافقة غير الرسمية من قيادات الرباط شرطًا لتولي بعض المناصب الدينية، بحسب مصادر ميدانية.

كما رسّخت الجماعة موقعها كمحاور رسمي للحكومة في ملفات "الأمن الفكري"، وهو ما ظهر في اجتماعاتها مع مسؤولين بارزين، أبرزهم وزير الداخلية عبد الأمير الشمري في أيار/مايو 2025، ما منحها شرعية إضافية ودورًا في رسم السياسات الدينية الرسمية.

ولم يكن التغلغل المؤسسي للجماعة داخل الوقف السني والمؤسسات الرسمية الدينية مجرّد توسّع دعوي، بل تزامن مع تحالفات ميدانية ذات طابع اقتصادي وأمني، خاصة في المناطق المحررة، هذا التمدد تجاوز النطاق الديني، ليمس البنية الاجتماعية والاقتصادية للمدن السنية التي خرجت للتو من الحرب.

وفي هذا السياق، يرى رئيس مجلس النواب العراقي محمود المشهداني أن ما يحدث لا يقتصر على جماعة واحدة، بل يعكس ظاهرة أوسع تشمل غالبية الطرق الصوفية في البلاد، التي تحوّلت إلى هياكل ظاهرها ديني، لكن باطنها مرتبط بالسعي وراء المنافع والمصالح الدنيوية، وفق تعبيره.

وأضاف المشهداني في تصريح صحفي أن "الكثير من هذه الطرق دخلت في تفاهمات مباشرة مع فصائل مسلحة، مقابل خدمات أو حمايات أو حتى عقود تجارية"، مشيرًا إلى أن "ضعف الوازع الديني لدى بعض القائمين على تلك الجماعات هو ما جعلهم يتعاملون مع الأمر كفرصة للنفوذ لا للدعوة".

وأوضح رئيس مجلس النواب العراقي أن "هذا النفوذ لم يأتِ من فراغ، بل جاء نتيجة استثمار تلك الجماعات لوجودها في غرب وشمال العراق للدخول في أنشطة تجارية مشتركة مع هيئات اقتصادية تابعة للحشد الشعبي، الذي يسعى بدوره لتوسيع مصالحه داخل تلك المناطق عبر شركاء محليين يمنحونه غطاءً اجتماعيًا أو دينيًا".

الرباط ومحور النفوذ

شكّلت هيئة الحشد الشعبي بوابة حيوية لتوسّع جماعة الرباط المحمدي بعد عام 2017، حيث نسّق رئيس مجلس علماء الرباط المحمدي عبد القادر الآلوسي بشكل مباشر مع قيادات بارزة في الحشد خلال معارك الأنبار والفلوجة.

وانخرطت الجماعة لاحقًا في مديرية التوجيه العقائدي التابعة لهيئة الحشد، وأسهمت في برامج "إعادة التأهيل الفكري" للمقاتلين والمعتقلين، ما منحها تمثيلًا رسميًا داخل أحد أبرز أجهزة الحشد، في تحوّل عدّه مراقبون تخادماً وظيفيًا بين الطرفين.

ورغم الجدل الذي يرافق تمدد جماعة الرباط المحمدي في مناطق السنّة وتحالفاتها غير المعلنة والمثيرة لا تُخفي قياداتها علاقتها الوثيقة مع هيئة الحشد الشعبي، بل تعد هذا التنسيق جزءًا من مشروع وطني لمواجهة التطرف وإعادة بناء النسيج المجتمعي بعد مرحلة "داعش".

وفي هذا السياق، يدلي كل من رئيس مجلس علماء الرباط المحمدي ونائبه برؤية تشرح من وجهة نظرهم طبيعة العلاقة مع الحشد وأبعادها الفكرية والدعوية.

يؤكد رئيس مجلس علماء الرباط المحمدي، عبد القادر الآلوسي على "علاقة وثيقة وقوية ومتينة مع الحشد"، مضيفاً: "نحن لا نرى في هذا التقارب تناقضًا مع مبادئنا، بل نعده امتدادًا لمشروع المقاومة الفكرية الذي نعمل عليه منذ سنوات".

وتابع الآلوسي: أن "هدفنا معالجة الأفكار المتطرفة ومنع عودتها إلى مناطقنا الأصلية خصوصًا تلك التي عانت من تنظيم داعش".

في حين يرى نائب رئيس مجلس علماء الرباط المحمدي، محمد النوري، أن العلاقة بالحشد ليست استثناءً، بل نتيجة طبيعية لفلسفة التصوف القائمة على التواصل والانفتاح.

وأضاف النوري: أن "الطرق الصوفية بطبيعتها تدعو إلى الانسجام بين كل شرائح المجتمع، وبالتالي هي تلتقي بالجميع طالما أنهم عراقيون ونحن نعمل على خلق جسور بين الفلوجة والنجف وبين الرمادي والموصل وكربلاء".

دعم رسمي وامتيازات ميدانية

ولم تكن جماعة الرباط المحمدي لتصل إلى ما هي عليه اليوم من نفوذ وتأثير داخل المؤسسات الدينية والإعلامية، لولا التسهيلات الرسمية التي حظيت بها من قِبل الحكومة العراقية.

 فمنذ العام 2017، وبعد تحرير المدن من تنظيم "داعش"، بدأت الجماعة ترسّخ وجودها في المشهد الديني السني تحت عناوين الاعتدال ومكافحة التطرف، مستفيدة من انفتاح حكومي واسع عليها.

وشكّلت اللقاءات المتكررة لقيادات الجماعة مع مسؤولين حكوميين بارزين، مثل وزير الداخلية عبد الأمير الشمري، جانبًا من هذا الامتزاج المؤسسي، الذي جعل من جماعة الرباط المحمدي شريكًا في رسم سياسات الأمن الفكري والتوعية الدينية.

كما ساعد هذا التمدد الممنهج في ديوان الوقف السني والمؤسسات الدينية الرسمية، على منح الجماعة أدوارًا تتخطّى وزنها التقليدي بين الطيف السني العراقي.

ووسط تساؤلات متزايدة عن حدود العلاقة بين الرباط المحمدي والحكومة العراقية، يبرز رأي عدد من الباحثين بوصف هذه العلاقة جزءًا من هندسة أعمق لإعادة تشكيل الساحة السنية.

ويرى الكاتب والباحث في الشأن السياسي العراقي يحيى الكبيسي أن الفاعل السياسي الشيعي ولا سيما الفصائل العقائدية المرتبطة بإيران، لعب دورًا محوريًا في تمكين جماعة الرباط المحمدي، من خلال دعمها علنًا بهدف "تدجين المجتمع السني دينيًا"، عبر تبني مقولات عقائدية تتقاطع مع التراث السني.

وقال الكبيسي: إن "هذا التمكين لم يكن نظريًا فقط، بل تجسّد عبر تمكين مباشر داخل مؤسسات الدولة، مثل السماح لشيوخ الرباط بتقديم برامج دينية على شاشة قناة العراقية الرسمية، ومنحهم مواقع رسمية في أجهزة أمنية، كمديرية مكافحة الإرهاب الفكري التابعة لمستشارية الأمن القومي".

ولفت إلى أن "الجماعة حصلت على نفوذ مؤسسي داخل ديوان الوقف السني، من خلال تعيينات في المجلس الأعلى للأوقاف، وتولّي مناصب إدارية ومالية مهمة، ما مكّنها من السيطرة على عدد من الجوامع والمساجد".

 وأردف الكبيسي: أن "الجماعة ذهبت إلى أبعد من ذلك"، مؤكدًا أن "بعض هذه الشخصيات ظهرت لاحقًا في تصريحات علنية تهاجم خصوم الجماعة وتتبنى خطابًا يقارب في مضمونه ما تطرحه الفصائل المسلحة المقربة من إيران".

وبين أن "جماعة الرباط المحمدي ليست مجرد كيان دعوي، بل باتت أداة وظيفية ضمن مشروع سياسي يسعى إلى تفريغ الساحة السنّية من الأصوات المناوئة وتهيئة بيئة للتفاهم مع الحشد الشعبي، بدعم سياسي وأمني من داخل الدولة".

الرباط في حضن طهران

ومنذ تأسيسها قدّمت جماعة الرباط المحمدي نفسها كتيار صوفي معتدل يركّز على قيم التسامح والوحدة، إلا أن مسارها العملي بعد عام 2015 بدأ يكشف عن تقاطعات لافتة مع الخطاب العقائدي والسياسي المقرّب من المحور الإيراني.

فقد تبنّت جماعة الرباط المحمدي، منذ سنوات، سرديات دينية تحمل مضامين من التراث الشيعي، أبرزها رواية "الغدير" التي تروّج لـ"وصية الإمامة"، في خطوة أثارت انتقادات وعدت تقاطعًا عقائديًا مقصودًا مع المرجعية الشيعية.

وبالتوازي نسّق زعيم الجماعة عبد القادر الآلوسي علنًا مع قيادات في الحشد الشعبي، وشارك في فعاليات إلى جانب فصائل مثل بدر والعصائب، ما أسهم في حصول الجماعة على دعم غير مباشر، شمل منابر إعلامية رسمية وتسهيلات حكومية، وصولًا إلى مشاركتها في برامج "مكافحة التطرف" بالتعاون مع هيئة الحشد.

هذه المعطيات تتقاطع مع قراءة أوسع لتوجّه إيراني استراتيجي نحو اختراق المجال السني عبر أدوات ناعمة، مستفيدًا من هشاشة البُنى الدعوية السنية بعد "داعش"، ومن البحث المتسارع عن بدائل معتدلة تخفف من حدة الخطاب السلفي غير المتصالح مع إيران، لعبت بعض الطرق الصوفية خصوصًا الرباط المحمدي، دور الحليف المتاح سياسيًا وعقائديًا.

ويعزز هذا الطرح تصريح الباحث غالب الشابندر، الذي يشير إلى أن "الحشد الشعبي يسعى حاليًا إلى تعويض تراجعه الشعبي في حواضنه الشيعية من خلال الانفتاح على المجتمع السني، وأن استخدام الطرق الصوفية، بما لها من شبكات وأطر محلية، تُعد خيارًا مناسبًا وعمليًا لهذا الاختراق".

وأوضح الشابندر: أن "هناك مصالح مشتركة بين الجانبين، فالحركات الصوفية أيضًا تبحث عن امتيازات وشراكات تجارية أو مؤسساتية، والحشد بدوره يبحث عن أدوات لضمان النفوذ في المناطق المحررة".

 أدوات التأثير الناعم: إذاعة "الرقيم" ومؤسسة "رُشد"

في سياق تمدد الجماعة داخل المشهد السنّي، برزت كل من إذاعة "الرقيم" ومؤسسة رُشد" كأذرع إعلامية وتنظيمية تلعب أدوارًا محورية في تعزيز خطاب الجماعة، وتوسيع نفوذها داخل المجتمع السني، لا سيما في المناطق التي شهدت فراغًا بعد تراجع التيارات التقليدية أو حظر بعضها.

إذاعة "الرقيم"، التي تبث من مدينة الفلوجة، تتبنى خطابًا دينيًا وفكريًا يقدَّم على أنه معتدل، لكنه يُظهر في مضامينه تقاطعات واضحة مع سرديات فكرية وسياسية مقربة من المحور الإيراني.

وتشمل برامجها تمجيدًا لتجربة الفصائل المسلحة المرتبطة بالحشد الشعبي، وتصويرها كقوة محررة للمناطق السنية من "داعش"، إضافة إلى تناول النصوص القرآن والحديث بطريقة تقترب من مفاهيم ولاية الفقيه، في ما عده بعض المراقبين ترويجًا مبطّنًا لأجندات تتجاوز الإطار السني التقليدي.

وتثير الإذاعة جدلًا داخل الأوساط الدينية، بسبب استضافتها لشخصيات تفتقر أحيانًا إلى التأصيل الشرعي المتعارف عليه، وطرحها موضوعات اجتماعية خاصة في ما يتعلق بالمرأة، تُعد مثيرة للجدل في البيئات السنية المحافظة.

أما مؤسسة "رُشد"، فهي ذراع تنظيمية تعليمية تابعة للمجلس، تنشط في إقامة دورات تأهيلية وحلقات نقاش شبابية، وتُستخدم كمنصة للترويج لخطاب الجماعة وتوسيع حضورها في المحافظات.

بالرغم من تبنيها خطاب التنمية ومحاربة التطرف، يرى مراقبون أن جماعة الرباط المحمدي أصبحت جزءًا من مشروع أوسع لإعادة تشكيل المزاج الديني في المناطق السنية المحررة، ضمن هندسة سياسية وأمنية تقودها أطراف نافذة في الدولة.

وقد تحوّلت الجماعة تدريجيًا إلى واجهة سنية متناغمة مع مراكز النفوذ، تؤدي أدوارًا تجمع بين الدعوة والتوجيه العقائدي والمشاركة في برامج أمنية، في سياق غير مسبوق من التداخل بين الدين والسياسة في العراق.

اخترنا لك