2023-11-30 17:50:25
آمنة ملا جياد-شبكة الساعة
ترتبط الحركات السياسية عادة مع الأديان فتكون لكل حركة سردية دينية خاصة، إما ديني يتبنى أفكارًا معينة من ديانة المؤسسين، أو لا ديني كل وفق درجاته، لكن غالبًا ما دُعمت القضايا الكبيرة بالدين، ومؤسس الحركة الصهيونية، تيودور هيرتزل، أدرك رغم إلحاده واعترافه بعدم إيمانه بوجود الله، ضرورة اقتران أهدافه السياسية بسردية دينية، وليس هناك أقوى من سردية "أرض الميعاد" و"هيكل المعبد" في الديانة اليهودية، فربط حركته الصهيونية التي نشأت علمانية بادئ الأمر بحكاية "أرض الميعاد".
في بداية بحث هرتزل عن أرض يسكنها اليهود لم تكن أرض فلسطين ولا تسقيط رواية اليهود عن "أرض الميعاد" وهيكل سليمان على المسجد الأقصى، ذات أهمية لديه فوقع اختياره الأول على الأرجنتين وهي أرض تحقق أهدافه، بعيدة عن أوروبا وذات مناخ معتدل وأرض خصبة وتطل على المحيط الأطلسي الجنوبي.
في 1948 أعطت بريطانيا (إحدى الأطراف المنتصرة في الحرب العالمية الثانية والمسيطرة بالانتداب على أرض المقدس)، لنفسها الحق بتوطين اليهود بفلسطين، فبدأ التسويق لأحقية اليهود بالأرض بالاعتماد على نصوص من التوراة.
تستند السردية الدينية اليهودية، على نصوص تأتي أغلبها من كتاب العهد القديم-سفر التكوين، فتم اختيار الانطلاق نحو "أرض الميعاد"، من فلسطين وفق الإصحاح 12؛ إذ جاء نصه 1 "وَقَالَ الرَّبُّ لأَبْرَامَ: اذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ أَبِيكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُرِيكَ". 5"فَأَخَذَ أَبْرَامُ سَارَايَ امْرَأَتَهُ، وَلُوطًا ابْنَ أَخِيهِ، وَكُلَّ مُقْتَنَيَاتِهِمَا الَّتِي اقْتَنَيَا وَالنُّفُوسَ الَّتِي امْتَلَكَا فِي حَارَانَ. وَخَرَجُوا لِيَذْهَبُوا إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ. فَأَتَوْا إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ". 7"وَظَهَرَ الرَّبُّ لأَبْرَامَ وَقَالَ: لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ. فَبَنَى هُنَاكَ مَذْبَحًا لِلرَّبِّ الَّذِي ظَهَرَ لَهُ".
ووفق سفر التكوين فإن كنعان (أب الكنعانيين) هو ابن حام بن نوح الإصحاح 10: 6 "وبنو حام: كوش ومصرايم وفوط وكنعان"، كما أنه جد القبائل التي سكنت أرض كنعان قديمًا وكانت أرض كنعان وفقًا للتوراة 19 وَكَانَتْ تُخُومُ الْكَنْعَانِيِّ مِنْ صَيْدُونَ، (صيدا مدينة لبنانية ساحلية)، حِينَمَا تَجِيءُ نَحْوَ جَرَارَ إِلَى غَزَّةَ، وَحِينَمَا تَجِيءُ نَحْوَ سَدُومَ وَعَمُورَةَ وَأَدْمَةَ وَصَبُويِيمَ إِلَى لاَشَعَ (مدينة مذكورة في التوراة تقع شرق البحر الميت).
في خضم البحث عن أرض تحكمها الحركة الصهيونية وشعب ترسخ عليه قوانينها، لم يكن هناك أفضل من أرض فلسطين لإكمال هذه الرواية التي يقرأ نصوصها اليهود في كتابهم المقدس، وتبنت بريطانيا تخليص أوروبا من اليهود إحدى أهم الأسباب الرئيسة في الحرب العالمية الثانية وعقبة عانت منها الشعوب الأوربية لقرون عدة.
تقوقع اليهود على أنفسهم، ومحاولتهم السيطرة على اقتصاديات البلدان التي ينتمون لها، والتآمر ضد الأنظمة الحاكمة، كل ذلك كان من أسباب نبذ المجتمعات الغربية وخاصة الأوروبية لليهود. أفكار هرتزل وحركته الصهيونية التى خلفها للعالم عقب وفاته باتت الحل الوحيد للتخلص من اليهود عبر السردية الدينية ومن بوابة الشرق الأوسط وفي الأرض التي تقع تحت انتداب البريطانيين.
تكاملت الصورة وتناسبت الأسباب الدينية لجذب عامة اليهود مع حركة هرتزل الذي خضع لأفكار الحاخام لتطويع دولته العلمانية التي بنى أسسها في كتاب الدولة اليهودية لرواية "أرض الميعاد"، فحان وقت تحقيق حلم اليهود بامتلاكهم أرضاً وتخليص أوروبا منهم.
الكنعانيون أحد الشعوب التي استقرت في فلسطين منذ آلاف السنين، يعتقد بعض المؤرخين بأن الكنعانيين جاءوا من بلاد ما بين النهرين، ويعتقد آخرون أنهم جاءوا من الجزيرة العربية، أسس الكنعانيون حضارة عظيمة على الأرض التي استوطنوها وتتكون من فلسطين ولبنان والأجزاء الغربية من الأردن وسوريا، وهم أول من بنى مدينة في التاريخ؛ حيث بُنيت أريحا قبل الميلاد بعشرة آلاف سنة، كما بنوا الخليل ثاني أقدم مدينة في التاريخ.
الكنعانيون في نظر اليهود شعب يجب أن يُمحى ويُباد ، كتابهم ذكر في مواضع عدة قتلهم للكنعانيين وحرق مدنهم وقراهم، وإبادة حرثهم ونسلهم في كل موقع كنعاني مروا به، وتبقى الآية الأكثر جدلا في التوراة هي آيات لعن النبي نوح كنعان بخطيئة أبيه حام وجعله عبدًا لسام وذريته (سفر التكوين الإصحاح 9: 22-27).
ومما يُفهم منه خلاف ذلك ما جاء في سفر التثنية (16:24) "لاَ يُقْتَلُ الآبَاءُ عَنِ الأَوْلاَدِ، وَلاَ يُقْتَلُ الأَوْلاَدُ عَنِ الآبَاءِ. كُلُّ إِنْسَانٍ بِخَطِيَّتِهِ يُقْتَلُ". إن التفسير العلمي والسياسي والأقليمي الأكثر شيوعًا لذكر الكهنة المحرفين لكتاب التوارة لاسم كنعان بدلاً عن حام الذي ذكر الكتاب نفسه أنه الابن الثاني لنوح وليس الأصغر هو أن "تُخُومُ الْكَنْعَانِيِّ مِنْ صَيْدُونَ، حِينَمَا تَجِيءُ نَحْوَ جَرَارَ إِلَى غَزَّةَ، وَحِينَمَا تَجِيءُ نَحْوَ سَدُومَ وَعَمُورَةَ وَأَدْمَةَ وَصَبُويِيمَ إِلَى لاَشَعَ" (سفر التكوين 10: 19)
فكانت الرواية الأبرز للكهنة والعبرانيين عن أولاد نوح أن "الأول فاضل أو مليء بالفضيلة، والثاني مليء بالرّذائل، والثالث بين الاثنين والأبن الأول يقصد به سام وذريته العرب والعجم إلا أن اليهود استأثروا بسام ومن هنا استنبط مصطلح "معاداة السامية" أي أبناء سام وهي حكرٌ على اليهود دون العرب فالعداء تجاه العرب لا يعتبر معاداة للسامية رغم أنهم من نسل سام بن نوح، والابن الثاني لنوح هو حام ونسله في السودان وفقًا للعالم العربي والمسلم محمد بن جرير الطبري والكنعانيين وفقًا لليهود ويعتبر اليهود أن كل من يسكن أرض بلاد الشام (فلسطين- الأردن-لبنان-سوريا) هم من كنعان ويستحقون عداوة التوراة لأقوام كنعان رغم أنهم أقوام انقرضت بغضب الرب وفقًا للتوارة نفسه، والابن الثالث لنوح هو يافث ونسله التُرك والصقالبة (الصقالبة هم الروس، والأوكرانيون والروتينيون، والروس البيض، ويقال لهم صقالبة الشرق. وقسم من البلغار، وجميع الصرب، والحزوات، والبوشناق، والسلوفين، ويقال لهم صقالبة الجنوب والبولونيون، والفنيد، والسلوفاك، والتشيك ويقال لهم صقالبة الغرب، وأكثر الصقالبة تابعون للكنيسة الشرقية، ماعدا البولونيين والتشيك والسلوفين والحزوات فإنهم كاثوليكيون، ومن الصقالبة مسلمون وهم البوشناق- كتاب تاريخ ابن خلدون).
الآن أصبح بيد كهنة اليهود مفهوم أن "العبرانيين" ذرية الفاضل "سام"، و "الكنعانيين" ذرية الرذيل "حام" وبما أن الفضيلة يجب أن تدحر الرذيلة فيجب على "العبرانيين" أن يُبيدوا "الكنعانيين" ويحتلوا أرضهم ويرث ثرواتهم التي تمتد خيراتها من صيدون إلى لاشع وهكذا يأمر الله في التوراة وفقًا لرؤيتهم.
"أرض الميعاد" الأرض التي وعد الرب بتمليكها لليهود وفق تفسير اليهود تمتد من الفرات في العراق إلى النيل في مصر ويستدلون بذلك من سفر التكوين الإصحاح 15: 18 "فِي ذلِكَ الْيَوْمِ قَطَعَ الرَّبُّ مَعَ أَبْرَامَ مِيثَاقًا قَائِلًا: لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ، مِنْ نَهْرِ مِصْرَ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ، نَهْرِ الْفُرَاتِ" والغريب في التفسير اليهودي لهذا النص هو عدم ذكر النيل مع أن التوراة ذكر نهر النيل بعشر مناسبات ولم يتطرق لعلاقته "بأرض الموعد" بل ذكر نهر مصر وهو نهر موسمي فى سيناء على حدود العريش ويبعد 280 كيلومترا عن نهر النيل والمفارقة الثانية هو أن النص وصف نهر الفرات بالنهر الكبير رغم أن طوله نحو ألفين و800 كم والنيل 6 آلاف و650 كم.
ووفقا للعديد من التفاسير فإن النهر الكبير وهو نهر الفرات الذي يمر في سوريا وليس العراق ففي معركة كركميش بين نبوخذنصر ونخو ملك مصر، قيل في الكتاب أن "بَعْدَ كُلِّ هذَا حِينَ هَيَّأَ يُوشِيَّا الْبَيْتَ، صَعِدَ نَخُوُ مَلِكُ مِصْرَ إِلَى كَرْكَمِيشَ لِيُحَارِبَ عِنْدَ الْفُرَاتِ. فَخَرَجَ يُوشِيَّا لِلِقَائِهِ" (سفر أخبار الأيام الثاني 20:35) و"نخو كان ذاهبا ليحارب نبوخذنصر في كركميش التي في الشمال وتدخل هنا الملك يوشيا أي أنه صعد إلى الفرات شمالا ولم يتجه إلى الفرات الذي في العراق شرقاً. ونفهم من هذا أن نهر الفرات المقصود في وعد الله لإبراهيم كان النهر الموجود في سوريا" (القمص أنطونيوس فكري).
وعن مصر فذكر كتابهم أنهم كانو هناك فعلًا إلا أنها أرض غربة لهم، "فَقَالَ لأَبْرَامَ: اعْلَمْ يَقِينًا أَنَّ نَسْلَكَ سَيَكُونُ غَرِيبًا فِي أَرْضٍ لَيْسَتْ لَهُمْ". (سفر التكوين 13:15)، وفي سفر المزمور 137: 1-4 وصف التوراة أرض بابل أي العراق بأرض غربة لهم وليس أرض ميعاد.
في سفر يشوع 4:15 حدد التوراة لليهود حدودهم الجنوبية بأنها عند وادي مصر "وَعَبَرَ إِلَى عَصْمُونَ وَخَرَجَ إِلَى وَادِي مِصْرَ. وَكَانَتْ مَخَارِجُ التُّخُمِ عِنْدَ الْبَحْرِ. هذَا يَكُونُ تُخُمُكُمُ الْجَنُوبِيُّ". كما وحدد لهم في سفر العدد 8:34 حدودهم الشمالية عند مدخل حماة "وَمِنْ جَبَلِ هُورَ تَرْسُمُونَ إِلَى مَدْخَلِ حَمَاةَ، وَتَكُونُ مَخَارِجُ التَّخْمِ إِلَى صَدَدَ"، ولم يُدخِل حماة السورية داخل الأرض الموعود بها. أي أن حدودهم التي حددها التوارة لهم هي حدود مصر جنوبا وسوريا شمالا.
لم يذكر التوراة دخول مصر أو سوريا أو العراق أو الأردن أو لبنان في أرض الميعاد كما منعهم أن يقتربوا أو يستولوا على أرض موآب (حضارة قامت على أرض الأردن)، "لاَ تُعَادِ مُوآبَ وَلاَ تُثِرْ عَلَيْهِمْ حَرْبًا، لأَنِّي لاَ أُعْطِيكَ مِنْ أَرْضِهِمْ مِيرَاثًا" (سفر التثنية 9:2) كما نهاهم عن أرض "عمون" عمان الآن، "فَمَتَى قَرُبْتَ إِلَى تُجَاهِ بَنِي عَمُّونَ، لاَ تُعَادِهِمْ وَلاَ تَهْجِمُوا عَلَيْهِمْ، لأَنِّي لاَ أُعْطِيكَ مِنْ أَرْضِ بَنِي عَمُّونَ مِيرَاثًا، لأَنِّي لِبَنِي لُوطٍ قَدْ أَعْطَيْتُهَا مِيرَاثًا" (سفر التثنية 19:2).
وعن أرض بني عيسو نهاهم في سفر التثنية 5:2 "لاَ تَهْجِمُوا عَلَيْهِمْ، لأَنِّي لاَ أُعْطِيكُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ وَلاَ وَطْأَةَ قَدَمٍ، لأَنِّي لِعِيسُو قَدْ أَعْطَيْتُ جَبَلَ سِعِيرَ مِيرَاثًا" ووفقًا للتوراة عيسو هو أدوم، "فسكن عيسو في جبل سعير. وعيسو هو أدوم" (سفر التكوين 8:36) وهو توأم يعقوب ابن إسحاق ابن إبراهيم، وتمتد أراضي بني عيسو من البحر الميت وحتى خليج العقبة، إذا وفقًا للتوراة حُرمت على اليهود هذه الأرض.
وحدد التوراة حدودهم الشرقية بـ موآب وبني عمون وأدوم. أما حدودهم الغربية فهي البحر الكبير أي البحر المتوسط "وَأَمَّا تُخْمُ ٱلْغَرْبِ فَيَكُونُ ٱلْبَحْرُ ٱلْكَبِيرُ لَكُمْ تُخْمًا. هَذَا يَكُونُ لَكُمْ تُخْمُ ٱلْغَرْبِ" (سفر العدد 6:34).
ووفقًا للتوراة ذاته، فإن هذه المملكة تحققت فعلاً في أيام النبي سليمان "وَكَانَ سُلَيْمَانُ مُتَسَلِّطًا عَلَى جَمِيعِ ٱلْمَمَالِكِ مِنَ ٱلنَّهْرِ إِلَى أَرْضِ فِلِسْطِينَ، وَإِلَى تُخُومِ مِصْرَ" (سفر الملوك الأول 4: 21).
التوراة يخبرهم أن هذه النبوة قد تمت فعلاً وهو ما أثبته سفر يشوع 21: 43" فَأَعْطَى الرَّبُّ إِسْرَائِيلَ جَمِيعَ الأَرْضِ الَّتِي أَقْسَمَ أَنْ يُعْطِيَهَا لآبَائِهِمْ فَامْتَلَكُوهَا وَسَكَنُوا بِهَا"، كما أخبرهم في سفر حزقيال الإصحاح 11: 11-10 كيف يجمع الرب بني إسرائيل في أرض إسرائيل ويذبحهم بها بالسيف، 10 بِالسَّيْفِ تَسْقُطُونَ. فِي تُخْمِ إِسْرَائِيلَ أَقْضِي عَلَيْكُمْ، فَتَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ. 11 هذِهِ لاَ تَكُونُ لَكُمْ قِدْرًا، وَلاَ أَنْتُمْ تَكُونُونَ اللَّحْمَ فِي وَسْطِهَا. فِي تُخْمِ إِسْرَائِيلَ أَقْضِي عَلَيْكُمْ".
في القرن التاسع عشر بدأ العديد من العلماء الناقدين المختصين بالكتاب المقدس يشكون في علاقة النبي موسى بأسفار التوراة الحالية واتجه عديد منهم إلى الاعتقاد بأن التوراة كانت من عمل كتاب تالين. وأشار العلماء إلى أنه نسخ مختلفة لنفس القصص ضمن الأسفار الخمسة للتوراة، فاقترحوا بأن النص التوراتي كان نتاجًا لعدة أيدٍ يسهل التمييز بينها فأي قراءة حذرة لسفر التكوين تكشف نسختين متعارضتين لقصة الخلق في الإصحاح الأول والإصحاح الثاني والثالث، وهناك سلسلتا نسب مختلفتان جدًا عن نسل آدم في الإصحاح 4: 17-26 وفي الإصحاح 5: 1-28، وهناك قصتا طوفان منفصلتان ثم مرتبتان مع بعضهما في الإصحاح 6: 5-9 ورواية ثانية في الإصحاح ذاته من 17-22، بالإضافة إلى أن هناك العشرات من نماذج التكرار المضاعف وأحيانًا المثلث لنفس الأحداث في قصص رحلات الآباء والخروج الجماعي من مصر.
التكرار المضاعف الذي يظهر في سفر التكوين، وسفر الخروج، وسفر العدد، لم يكن مجرد روايات مختلفة مذكورة بنحو اعتباطي أو تكرار ثانٍ لنفس القصص، لقد أبقت كل رواية بعض الخصائص التي يمكن تمييزها بسهولة بواسطة الاصطلاحات والتركيز الجغرافي المعين وخاصة تميز الأسماء المختلفة المستعملة عند وصف إله إسرائيل. فنجد مجموعة من الروايات تستخدم الأسم "يَهْوِه" وتبدو هذه الروايات مهتمة أكثر بكثير بقبيلة "يهوُذا" ودولتها الجنوبية, في حين تستخدم المجموعة الأخرى الأسم "إيلوهيم" أو "إيل" في حديثها عن الله وتبدو مهتمة بالقبائل والأراضي التي تقع في شمال البلاد، مثل قبائل "أفرايم" و"منسى" و"بنيامين".
أصبح واضحًا أن التكرار اشتق من مصدرين كُتبا في أوقات مختلفة وأماكن مختلفة وقد أعطى العلماء الاسم "جي J" للمصدر "اليُهْوي" (يَهْوِه) والاسم "اي E" للمصدر "الإيلوهي" (إيلوهيم)، وقد أقنعت استعمالات المصطلحات الجغرافية والرموز الدينية وأدوار القبائل في المصدرين العلماء أن النص "جي J" كتب في القدس ومثل وجهة نظر قبائل يهوذا وافترضوا أن كتابته تمت مباشرة بعد عهد الملك سليمان (970-930 ق.م)، وعلى المنوال نفسه، بدا أن النص "أي E" كتب في الشمال ومثل وجهة نظر مملكة إسرائيل (930-720 ق.م), في حين بدا سفر التثنية في أسلوبه الخاص وثيقة مستقلة سميت "دي D"، ويوجد بين أقسام التوراة التي لا يمكن أن تنسب لـ "جي J" و"أي E" و"دي D"، عدد كبير من الفصول التي تتعامل مع أمور الطهارة والعبادات والطقوس وأحكام تقديم القرابين، واتجه العلماء لاعتبار هذه الأجزاء اقتباس من مصدر طويل دعى "بي P" أو المصدر "الكَهَنُوتي".
وبمعنى آخر، اتجه العلماء إلى نتيجة قائلة بأن الكتب الخمسة الأولى "للكتاب المقدس العبري" الحالية هي حصيلة عملية تحريرية معقدة تم خلالها تجميع الوثائق المصدرية الرئيسة الأربع "جي J" و"أي E" و"دي D" و"بي P" ودمجها والربط بينهم من قبل النساخ الذين ظهرت آثار تنقيحاتهم الأدبية وجمل ربطهم بشكل جمل انتقالية وتعليقات جانبية تحريرية سميت هذه المقاطع بـ "آر R".
تفاوتت آراء العلماء خلال العقود المنصرمة حول تواريخ ومؤلفي هذه المصادر الفردية اختلافًا بينا وكبيرًا. فبينما رأى بعضهم أن تلك النصوص أعدت وحررت خلال مملكتي يهوذا وإسرائيل، أصر آخرون على أنها تأليفات متأخرة، تم جمعها وتحريرها أثناء المنفى البابلي والعودة منه في القرنين السادس والخامس ق.م، أو حتى في وقت متأخر أكثر يصل إلى الفترة الهيلينية (من القرن الرابع إلى الثاني ق.م). إلا أن المشترك الوحيد بين العلماء هو الإجماع على أن التوراة ليست تأليفًا فرديًا بل تجميع وترقيع لمصادر مختلفة كل منها كتب تحت ظروف تاريخية مختلفة لإبداء وجهات نظر دينية أو سياسية مختلفة.
ملاحظة1 - يهوذا: وفق الرواية اليهودية مملكة يهودية قامت في بلاد الشام وعاصمتها القدس في القرن العاشر ق.م، إلا أن علم الآثار والأدلة دحض هذه الرواية وهو ما أكده عالم الآثار اليهودي، إسرائيل فينكلشتاين؛ إذ إنه وفق علم الآثار فإن القدس في القرن العاشر ق.م كانت قرية صغيرة وغير مأهولة بشكل كامل وما كانت يهوذا إلا قبائل صغيرة جدا وصفها بالـمتطفلة" و المستطرقة، استوطنوا بشكل مؤقت مناطق صغيرة في بلاد الشام.
ملاحظة2 - (مصدر هذا العنوان الفرعي واستدلالاته من كتاب "التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقتها" لعالمي الآثار اليهوديين، إسرائيل فينكلشتاين، وفيل أشر سيلبرمان).
يروي كتاب اليهود المقدس أنه قبل نحو ألف عام ق.م قاد النبي داوود فتحًا للقدس وجعلها عاصمته وأسس إمبراطورية واسعة تغطي أغلب الأراضي بينما يؤكد علم الآثار أنه لا دليل على فتوحات داوود ولا على وجود إمبراطوريته الواسعة في حين أثبت استمرار ثقافة الوديان الكنعانية دون انقطاع مع استمرار نظام الاستيطان في مرتفعات العصر الحديدي الأول، كما روى التوراة أن النبي سليمان بنى الهيكل والقصر في القدس بين 970-931 ق.م في حين اثبتت دراسة لعلم الآثار استمرت لـ 200 عام عدم وجود أي علامة أو دليل على بناء هندسي أو معماري تذكاري في المواصفات الهائلة التي يرويها اليهود بالقدس بذلك التاريخ بل أثبتت استمرار الثقافة الكنعانية والفلسطينية على أرض القدس.
((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) القرآن الكريم-الإسراء: 1، يذكر كتابنا العظيم أهمية وقدسية ومباركة المسجد الأقصى وأنه المكان الذي أسرى إليه نبينا الكريم محمد ﷺ كما أنه أولى قبلتي المسلمين؛ إذ صلى نحوه طوال الفترة المكية، إضافة إلى 17 شهرا بعد الهجرة، وعن بنائه قال نبينا الكريم محمد ﷺ عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، قال: قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: "المسجد الحرام"، قال: قلت ثم أي؟ قال: "المسجد الأقصى"، قلت: كم كان بينهما؟ قال: "أربعون سنة، ثم أينما أدركتك الصلاة فصل، والأرض لك مسجد". (رواه البخاري).
وفي هذا الصدد، يرجح العديد من المؤرخين أن النبي آدم اختط حدود المسجد الأقصى عقب 40 عامًا من إرسائه قواعد المسجد الحرام قبل أن يكون هناك كنيسة أو معبد، ثم توالت عليه عمليات البناء وعمره النبي إبراهيم عام 2000 ق.م ثم جدده النبي سليمان سنة 1000 ق.م، ثم وضع الخليفة عمر بن الخطاب في "عهدته العمرية" سنة 15 هجرية و636 م الأسس لبناء المسجد القبلي، وفي 72 للهجرة 691 م بنى عبد الملك بن مروان مسجد قبة الصخرة حول الصخرة المشرفة التي عرج منها الرسول ﷺ إلى السماء، أما مسجد البراق فبناه الأمويون على حائط البراق الذي ربط الرسول ﷺ عليه دابته "البراق" في ليلة الإسراء والمعراج.
والمسجد الأقصى هو كامل المنطقة المحاطة بالسور والتي تبلغ مساحتها 144 ألف متر مربع ويضم نحو أكثر من 200 معلم ديني للمسلمين له 14 بابًا يدخل منه إلى المسجد القبلي ومسجد قبة الصخرة ومسجد البراق والمصلى المرواني إضافة إلى العديد من المعالم الأخرى.
حقائق الإسلام عن المسجد الأقصى طابقها علماء الآثار والمؤرخيون، إلا أن اليهود بدأوا منذ 1967 م محاولاتهم العثور على أي أثر يدل على بقايا الهيكل المزعوم، تحت المسجد الأقصى، فقامت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بإجراء حفريات وأنفاق تحت أسوار جبل بيت المقدس، وتحت أسوار المسجد الأقصى من جانبيه الغربي والجنوبي، وامتدت الحفريات إلى الأرضية الداخلية تحت ساحة المسجد، وتحت مسجد النساء داخل المسجد الأقصى واستمرت الحفريات بشق نفق واسع طويل اخترق المسجد من شرقه إلى غربه، رغم هذا التنقيب المستمر فإن أبرز علماء اليهود من أمريكا وألمانيا وكافة دول الغرب اعترفوا بعجزهم عن وجود أي دليل يثبت أن المسجد الأقصى بني فوق معبد قديم، هذا العجز دفعهم نحو الادعاء بأن حائط البراق هو من بقايا الهيكل المزعوم إلا أنه لا يوجد أي دليل لديهم بل أن علماءهم دحضوا هذه الأدعاءات.
ارتبط الدين بالحركات السياسية والقضايا الكبرى، فإما كان حجة لأطماع سياسية أو كان نصرة لحق، وعلى هذا المنوال، اختار لهم اليهود منذ قرون رواية دينية لدعم أطماعهم في ورث الأرض وإبادة من عليها. كتاب اليهود المقدس وقع ضحية أولى لهذه الأطماع، فتلاعب بحروفه وروايته وغاياته حتى بان التضاد والتكرار في سفر التوراة الخمسة، فأجمع علماء الغرب على حقيقة واحدة وهي أن ما كتب في هذا الكتاب هو لخدمة مصالح سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، الآن وعقب قرون من التحريف الأول للتوراة، استعمل الكتاب مرة أخرى لتحقيق ما يدعونه بـ "إسرائيل الكبرى" أو "أرض الميعاد"، فكان التحريف بتفسير التوراة وأخذ ما يستطيعون منه لتسقيطه على فلسطين من سفر التكوين في عهدهم القديم، والذى وعد به الربُّ إبراهيمَ بإعطائه أرض "كنعان" وحدد لهم أرض تمتد من النيل في مصر إلى الفرات في العراق، رغم عدم ذكر النيل فيما يستندون إليه، ونهاهم كتابهم عن دخول أرض بلاد الشام ووصف أرض العراق ومصر بأرض غربة لهم بل ذكر في سفر حزقيال أن الرب سيجمعهم بأرضًا ويذبحهم بها بالسيف، ترتبط دعايتهم الدينية بمعبد يدعون أنه معبدهم الوحيد بناه النبي سليمان، وهدم أسواره ملك بابل نبوخذنصر، ويدعي اليهود أن المسجد الأقصى بُني فوق أنقاض المعبد، وهي رواية لم تدعمها الأدلة بل دحضها علم الآثار فعقب سنين من الحفر تحت أسوار المسجد الأقصى لم يكتشف ما يدل على وجود معبد فراحت روايتهم المختلقة الجديدة بأن حائط البراق هو جزء من الهيكل، بهذه الروايات الخرافية تسعى الحركة الصهيونة لاحتلال المناطق الواقعة بين النيل والفرات وتمتد إلى المدينة المنورة وخيبر وفي السعودية.
أنظر أيضًا
المصادر
: كلمات مفتاحية
2023-12-04 23:31:35
محمد الحلبوسي بعد إقالته يفضح السياسيين
2023-12-01 17:29:10
سيطرات والحواجز الأمنية في العراق لقتل الناس أم لبسط الأمان؟
2023-12-01 17:22:51
الخطاب الطائفي يتصدر المشهد الانتخابي العراقي
2023-12-01 17:15:00
"مفتي الديار العراقية" يستحوذ على جامع ببغداد للوقف للسني!